العقل ..!!

 





 أن نعم الله علينا كثيرة، وآلاءه علينا غزيرة، وما زالت تتواصل بامتداد الأعمار وتواتر الأيام.  ألا وإن من أعظم نعم المنعم الكريم علينا: نعمة العقل الذي مُيزنا به عن سائر الحيوان، فصرنا به ندرك المنافع من المضار، والخير من الشر، في أمر المعاش وأمر المعاد.

 إن العقل عند العقلاء ينقسم إلى قسمين: العقل الغريزي، وهو العقل المشترك بين العقلاء؛ والعقل الاكتسابي، وهو ما يُكتسب من تجارب الزمان ووقائعه.

والعقل الغريزي لا يبلغ غاية الكمال إلا بمعاونة العقل المكتسب، كالنار والحطب، وذلك أن العقل الغريزي آلة، والمكتسب مادة، وإنما الأدب عقل غيرك تزيده إلى عقلك.

 وأما العقل المكتسب فإنه لا ينفك عن العقل الغريزي، وقد ينفك العقل الغريزي عن المكتسب فيكون صاحبه مسلوب الفضائل، موفور الرذائل، وبهذا يتمايز العقلاء، ويُعرف الألباء من الجهلاء.   فالعقل أساس الأعمال وينبوعها، والمميز بين الأشياء ومرجعها؛ وإذا أردت أن تعرف -أيها الإنسان- فضل الله عليك بهذه النعمة فانظر إلى من فقدها كالمجنون أو أصحاب الأمراض العقلية، فالحمد لله على نعمته، ونسأله المزيد من فضله، وأن تكون هبته سائقة لنا إلى شكره وحسن عبادته.   أيها العقلاء: إن العقل نور يهدي صاحبه إلى محاسن الأقوال والأفعال، وكم من إنسان يتصرف تصرف المجانين والبهائم، بحيث يعيش لشهواته، ونزواته وأهوائه واعتداءاته!

 

قال -تعالى-: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179].

 إن العقل الصحيح النافع يقود صاحبه إلى معرفة خالقه والعمل بشرائعه، والسير على الطريق التي جعلها سبيلاً موصلة إليه، يعرف: من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين المصير؟.

 أيها الأحبة الكرام: هناك عقول ذكية وألباب مشرقة، لكن على مصالح الدنيا فحسب، فهذه عقول مظلمة في مصالح الآخرة ربحت في الدنيا لكنها خسرت الآخرة.

  وكم من إنسان مسلم بصير بمصالح الدنيا، ذكي في تحصيل منافعها ودفع مضارها بعقله الخصب وذكائه الوقاد، غير أنه لم يستغل هذا الذكاء في جلب مصالح الآخرة والإكثار منها، ولعله قد يصرف هذا الذكاء وطاقته العقلية الجبارة في المكر وإضرار إخوانه المسلمين. فماذا استفاد من هذا العقل الذي لم يصرفه إلى مصالح دينه وأسباب نجاته بين يدي ربه؟!.

إن لله عباداً فُطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

نظروا إليها فلما علموا *** أنها ليست لحي وطنا

جعلوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا

 ومن علامات وجود العقل الصحيح عند الإنسان: الإقبال على المنافع والبعد عن المضار في أمر الدين والدنيا، فالإنسان العاقل يحرص على ما ينفعه، ويستعين بالله على تحصيله، ولا يعجز، وأعظم ما ينفع الإنسان في عيشه الأخروي: الإيمان والعمل الصالح؛ قال -تعالى-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97]. وأعظم ما ينفع الإنسان في عيشه الدنيوي: أن يكون معافى في بدنه، آمناً في بيته، عنده قوت يومه، فإذا نال ذلك فقد حيزت له الدنيا كما أخبر بذلك نبينا -عليه الصلاة والسلام-. فالعاقل من بني آدم يكدح في عمره كي يسلم من مضار الدنيا ويسلم من مضار الآخرة.

  إن العقلاء من الناس، مسلمهم وكافرهم، متفقون على وجوب حماية العقل من كل ما يخرجه عن الاستقامة الفطرية؛ حتى لا يصير سيء التصرف يجني به على نفسه وعلى غيره؛ فقد حرم الإسلام المفسدات العقلية، الحسية والمعنوية، فالمفسدات الحسية هي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل حتى يصبح الإنسان كالمجنون لا يعرف الضار من النافع، ولا الزوجة من الأم أو البنت.  وهذه المفسدات العقلية الحسية هي الخمور والمخدرات وما قام مقامها، وقد جاء النص على تحريم الخمر، ويقاس عليه ما ماثله في الإسكار أو زاد عليه أو نقص، جاء ذلك في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة:90-91]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" رواه مسلم،

  وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :  "إن الله لعن الخمر وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها وساقيها، ومسقاها" رواه أحمد وابن حبان والطبراني والحاكم، وهو حسن.


 إن آفة السكر هي أم الخبائث، ومفتاح كل شر، وبوابة الهلاك، فهل هناك إنسان عاقل يدخل نفسه إلى وادي الهلاك والخسارة؟  هذه الآفة كم حصل بسببها من إتلاف للأموال الخاصة والعامة! وكم قضت على طاقات عقلية وعقول ناضجة، وأشقت من أسر سعيدة! وكم أذلت من عزيز، وأفقرت من غني، وأهانت من كريم، وصغرت من عظيم، وأمرضت من صحيح، وفرقت بين الأقارب والأحبة والأصدقاء!.

 وأما المفسدات المعنوية فهي كل ما يطرأ على العقول من تصورات فاسدة في الدين أو السياسة أو الاجتماع أو غيرها، وهذه قد يكون بعضها أشد من الخمر والمخدرات!

 فكل تصور يفسد العقل عن التفكير السليم، والفهم الصحيح، ويعكر تصوراته النقية التي يأمر بها دين الإسلام والخلق الكريم فإنه تصور يجب إبعاده عن العقول؛ لأنه داء قتّال، ومرض عضال.  وبسبب تطور وسائل التأثير والإعلام، ولجهل كثير من الناس بدين الإسلام، وغلبة الشهوات على القلوب والشبهات على الأحلام، انتشرت بعض الأفكار المشبوهة والآراء المسمومة في بعض العقول التي قلت أنوارها من مشكاة الشرع، فتقبلت الإلحاد والعلمنة، والرفض والزندقة، والشك والحيرة، فجانبت الحق عندما تشربت تلك المفاهيم الخاطئة، وأفسدت أعمالها حينما أصبحت أسيرة تلك التصورات الهدامة

 نسأل الله أن ينير عقولنا بنور كتابه، وأن يرزقنا الهداية والرشاد إلى مرضاته.

 

حرر بتاريخ 10 رجب 1443 الموافق 11 فبراير 2022

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيئة العمل الصحية ضرورة نفسية وإدارية في منظماتنا المعاصرة

سبعة عشر يومًا… ولقاءٌ غير متوقع مع نفسي

لحظة الانكسار ..!