العطاء ليس ترفًا… بل ركيزة وطنية

 





 في كل مرحلة من مراحل التحوّل الوطني، تبرز قيمة تتجاوز الأرقام والخطط… إنها قيمة العطاءذاك الفعل الذي لا يُنتظر منه مقابل، ولا يُقاس بحجم الظهور،  بل بصدق النية وأثر الفعلوفي زمن تبني فيه المملكة رؤيتها الطموحة 2030، لم يعد العطاء خيارًا فرديًا أو عملًا خيريًا تقليديًا،بل أصبح مسؤولية وطنية ومؤسسية مشتركة، تتقاطع فيها الجهود الحكومية والمجتمعية نحو بناء إنسان واعٍ ومجتمع فعّال.

تتجلى هذه المعاني بوضوح أثناء مشاهدة فيلم الرسائل  (Letters from Mother Teresa)،الذي يعرض سيرة شخصية  نذرت حياتها للفقراء والمنكسرين، رغم ما كان يعتمل في داخلها  من ألم وصمت روحي.  

فالأم تريزا – كما تكشف رسائلها الخاصة – كانت تمر بمعاناة داخلية عميقة، تشكو فيها شعور الغربة عن الله، ومع ذلك لم تتوقف عن العطاء، بل زادها الألم  إصرارًا على مواصلة رسالتها.

في إحدى رسائلها كتبت "في داخلي صمت رهيب… لا أجد الله، لكنني أواصل خدمته في وجوه الفقراء."  

إنها عبارة تختزل كثيرًا من النضج الإنساني، حيث يظهر التواضع في أبهى صوره، وتبقى الهمّة مشتعلة، والعطاء حاضرًا لا ينتظر مديحًا أو تصفيقًا.ورغم كل ما قدّمته، كانت تردد دائمًا"أنا مجرد قلم صغير في يد الله… يكتب رسالة حب إلى العالم."  لم تكن ترى في نفسها شيئًا… وكانت تعتبر أن ما تقوم به واجب إنساني لا يُنتظر عليه شكر ولا تصفيق.وقد قيل ذات يوم"من عظمة الشخص تواضعه رغم كمية الأعمال العظيمة التي يقدمها."


قد يتساءل البعض عن سبب الاستشهاد بهذه القصة. الجواب ببساطة أن الفيلم – المتاح على منصة نتفليكس – يشاهده الملايين حول العالم، ويقدم قصة لا تحتاج إلى انتماء ديني لتقديرها، بل حسًا إنسانيًا لفهمها واستلهامها. إنها قصة عن الإخلاص في أقسى لحظات الضعف، وعن القوة المتخفية في العطاء الصامت وقد قيل:"الحكمة ضالة المؤمن، فأينما وجدها فهو أحق بها." وإن كانت هذه المقولة لم تُثبت كحديث صحيح متصل السند إلى النبي محمد ﷺ، إلا أن معناها مستقيم وموافق لروح الإسلام، حيث يحثنا على طلب الحكمة والمعرفة من أي مصدر أتت، ما دامت حقًا وهدًىولذا، ليس غريبًا أن تُلهمنا مثل هذه القصص الإنسانية، وليس مستنكرًا أن نتأثر بقصة الأم تريزا، فالهمّة لا تعرف دينًا، والتواضع لا يعرف حدودًافالله يزرع بذور الإلهام في قلوب من يسعون للخير، بصرف النظر عن أسمائهم أو دياناتهمونحن كمسلمين، حين نرى مثالاً إنسانيًا ملهمًا من غير المسلمين، نستلهم منه العزم لا العقيدة، ونقتبس منه الروح لا الإيمان.

وفي المقابل، يزخر عالمنا العربي والإسلامي بنماذج مشرّفة للعطاء، في مقدمتها الدكتور عبدالرحمن السميط – رحمه الله، الذي أفنى حياته في خدمة المجتمعات الأفريقية، بصمت وتواضع وثبات، دون سعي للشهرة أو طلب لمقابل. فالرسالة هنا واحدة: أن العطاء لا يُولد من وفرة، ولا يُشترط له الكمال، بل يكفيه الإخلاص والنية الصافية.

ومع اتساع هذه المعاني على المستوى الفردي، فإن ثقافة العطاء في المملكة العربية السعودية
انتقلت من كونها مبادرات شخصية إلى إطار مؤسسي وطني، تتبناه رؤية 2030 كأحد ركائز التحول.


لم يعد العمل التطوعي أو تمكين القطاع غير الربحي نشاطًا جانبيًا، بل أصبح مسارًا استراتيجيًا من خلال برامج مثل جودة الحياة، ودعم التطوع، وتمكين الجمعيات والمبادرات المجتمعية. هذه البرامج تعزز من فكرة أن لكل فرد دورًا، ولكل مواطن أثرًا، في أي مجال، وبأي إمكان.

ولعل أعظم ما في ثقافة العطاء أنها لا تشترط منصبًا ولا موارد، بل تبدأ من نية صادقة، وتتحول إلى فعل نافع، ثم تثمر في النفوس.

التواضع لا يعني أن تتراجع، بل أن تتقدّم دون أن تلتفت. والعطاء لا يُقاس بما تأخذ مقابله، بل بما يبقى في الناس بعدك. في زمن التحول الوطني، هذه هي رسائل المرحلة: أن نبني، ونعطي، ونزرع… لا انتظارًا للضوء، بل طلبًا للرضا. نسأل الله أن يرزقنا الإخلاص، وأن يجعل لنا في كل خطوة أثرًا، وفي كل نية قبولًا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بيئة العمل الصحية ضرورة نفسية وإدارية في منظماتنا المعاصرة

سبعة عشر يومًا… ولقاءٌ غير متوقع مع نفسي

لحظة الانكسار ..!