اليوم الوطني ..!!
مرت علينا قبل أيام ذكرى عظيمة، وحادثة
خالدة، وتاريخ جليل ليوم أغر، من أعظم الأيام التي مرت على هذه الأرض، وأشرقت شمسه
على هذه البقعة المباركة من البسيطة، ألا وهو اليوم الوطني لمملكتنا الغالية،
اليوم الذي التمَّ فيه شعثنا، وتجمَّع شتاتنا، وتوحدت أجزاؤنا، وعدنا لُحْمَة
واحدة بعد أن كنا أُمَمًا متفرقة، وقبائل متناحرة، ومجموعات مبعثرة نعيش في خوف
ووجل، وفقر وعوز، وتناحر وتقاتل، يأكل القويّ منا الضعيف، ويسطو بعضنا على حقوق
بعض.
ونحن نعيش هذه الذكرى العظيمة، كان
لزامًا علينا أن نعرف مكانة هذا الوطن العظيم الذي ما كان له أن يكون على ما هو
عليه اليوم لولا جهود الرجال، وتضحية الأبطال، وعمل المخلصين من أبنائه رجالاً
ونساءً، شيبًا وشبانًا.
الوطن.. وما أدراكم ما الوطن، تلك
الأرض ذات المكانة العالية، والمنزلة الرفيعة، والمرتبة السامية في نفس وقلب
ووجدان كل شخص، حبّها كالدم المتدفق في الشرايين، والتعلق بها كالروح التي تترد
داخل الجسد.
من فطرة الله التي فطر عليها الخلق،
وسُنّته التي قضاها في العباد أن جعل الأوطان محبوبة في القلوب، مجبولة على التعلق
بها النفوس، مقدّمة على جميع النفائس، فهي مراتعُ الصِّبا، ومنازل الشباب، ومهوى
القلوب، ومجمع الأحباب، وملتقى الأصحاب، حبها دليل على الوفاء، والتعلق بها شاهد
على الولاء:
وللأوطانِ في دَمِ كُلِّ
حُرٍّ * يَدٌ سَلَفَتْ ودَيْنٌ
مُسْتَحَقُّ
وفي بيانِ هذه الفطرة والجبلة يقول
الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ
مِنْهُمْ)[النساء:66]، فالإنسان السويِّ مجبول على ألا يفارق أرضه، ولا يبتعد عن
وطنه، ولا يترحل عن منازله، بل تُحتّم عليه هذه الفطرة وتوجب عليه هذه الجبلة أن
يقاتل عن أرضه إذا دعت الحاجة، وأن يبذل من أجلها الروح إذا استدعى الأمر، قال
الله -تعالى-: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا
تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ
أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[البقرة:246].
فالوطن مهما كان وضعه أو صفته، ومهما كانت صعوبة
الحياة عليه أو سهولتها، لا يمكن أن يُكره أو يُبغض أو يتنكر له، يقول الأصمعي:
“ثلاثُ خصالٍ في ثلاثة أصنافٍ: الإبلُ تحنُّ إلى أوطانها وإن كان عهدُهَا بها
بعيداً، والطيرُ إلى وكره وإن كان موضعه مجدباً، والإنسان إلى وطنه، وإن كان غيرُه
أكثر نفعاً”.
بلادٌ ألِفْناها على كل
حالةٍ وقد * يُؤْلَفُ الشيء الذي ليسَ بالحَسَنِ
ولنا في رسول الله أعظم مثل في حبّ
الوطن، والتمسك بالأرض، فها هو يقف على مشارف مكة، وقد أجبره قومه على مغادرتها،
وأرغمه المشركون على الرحيل عنها، فقال وهو يحدثها بكل أسًى، ويشكو إليها بكل حزن،
وكأنه يخاطب شخصًا يسمعه ويشعر به فيقول -كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد
وأصحاب السنن-: “والله، إنك لأحب البقاع إلى الله، وأحب البقاع إليَّ، ولولا أني
أُخرِجت منك ما خرجتُ“.
بل وصل به الحال من شدة حبّه لوطنه،
وتعلقه بأرضه أن كان يدعو الله -تبارك وتعالى- بقوله: “اللهم حبّب إلينا المدينة
كحبّنا مكّة أو أشدّ“، حتى صارت المدينة محبوبة إلى قلبه، فكان إذا قدم من سفر
فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته -أي: أسرع بها- وإذا كانت دابة حرَّكها”(رواه
البخاري). وزاد بعض الرواة: “حركها من حبّها”.
قال ابن حجَر -رحمه الله- معلقًا على
هذا الحديث: “فيه دلالة على فضلِ المدينة، وعلى مشروعية حبِّ الوطن والحنين إليه“.
إن صيانة الأوطان مسؤولية الجميع،
فهي مسؤوليةُ قائمةٌ ما بقيت روح في جسد، وما ترددت حياة في بدن، من صرخة الميلاد
الأولى إلى شهقة الموت الأخيرة. فكل منا يتوجب عليه أن يبذل من أجل وطنه ما استطاع
على قدره وطاقته، وحسب مجهوده ومكانته، ومن مكانه الذي هو فيه، فإن كان في مقدمة
القوم وفي صدرهم كبرت عليه المسؤولية، وعظم في حقه البذل، وتوجب عليه التفاني في
العطاء، ومن كان في الساقة وجب عليه أن
يبذل ما استطاع وقد أعذر.
كما ينبغي علينا الوفاء له، والإخلاص
في خدمته، والسعي إلى وحدته ولُحمته، ونشر المحبة بين أفراده ومواطنيه جميعاً،
وتثبيت قيم الولاء له، والطاعة لولاته وحكامه.
الحديث عن الوطنية -يا عباد الله- حديث
عن كل لا يتجزأ، وعن نسيج متكامل من المبادئ والقيم لا تتفرق، جوهر ذلك كله وكنهه
ومؤداه: بيعة في رقبة، وأداء للحقوق والواجبات، وولاء وطاعة لمن ولاه الله علينا،
وعدم نزع يد من طاعة أو شقّ عصا الجماعة، وخدمة لهذا الوطن حتى يكون في مصافّ
الدول المتقدمة، والأمم المتطورة الظاهرة.
الصنف الأول: أولئك الصادقون المتنبهون
النابهون، الباذلون من أوقاتهم وراحتهم وعرقهم ودموعهم ودمائهم من أجل هذا الوطن
وفي سبيل أمنه وأمانه، كل يومٍ هم في شأن من الخدمة جديد، لا تفتر قواهم، ولا تخور
هممهم، ولا يعتريهم عجز ولا كسل، تراهم في كل مضمار يتسابقون، وفي كل صعيد
يتنافسون، لهم في جانب العلم القدح
المعلَّى، وفي صنائع المعروف السهم الأوفى، وفي الدفاع عن الدين والأرض والعِرْض
النصيب الأسمى، فأينما يمَّمْتَ وجهك رأيتهم متقدمين، وأينما توجهت وجدتهم
متصدرين، أولئك من الفائزين.
الصنف الثاني: قوم ليس لهم من حب الوطن إلا
الدعاوى بلا براهين، حبّ زائف، وتعلّق كاذب، لا يقدمون شيئًا ولا يتقدمون، ولا
ينافسون في الخير ولا يتنافسون، ومع ذلك هم أعداء لكل ناجح، ألداء لكل طامح، كل
بضاعتهم الكلام ولا يحسنون غيره، يحبون الوطن حبًّا سلبيًّا يختصرونه في الاحتفال
باليوم الوطني وسماع الأناشيد والأغاني الوطنية، بينما لا يبذلون لهذا الوطن جهدًا
ولا مجهودًا.
حبّ الوطن يكون بالدفاع عن أراضيه،
والذَّود عن دينه، والغيرة على مقدساته، والحفاظ على ثوابته.
حب الوطن يكون بالاعتزاز بهويته،
والمفاخرة بعقيدته، والابتهاج بتميزه، والثبات كل الثبات على نهجه الأول الذي أسست
هذه المملكة العظيمة، من حفاظ على الشريعة، ونشر للعقيدة، وتطبيق للإسلام
وتعاليمه.
حب الوطن أن نقف سوية أمام أهل الضلال
والزيغ، وأن ندفع شبهاتهم بالراحتين والصدر، وأن نكون حُرّاسًا للفضيلة، ناشرين
للأخلاق الجميلة, والصفات الجليلة.
حبّ الوطن بالحرص على الممتلكات الخاصة
والعامة، والتعامل بأخلاق أهل الإسلام مع جميع البشر، وكفّ الأذى عن الخلق, والتوسط والاعتدال في كلّ
شيء، ونبذ التطرف من كل شيء.
إن الواجب علينا أن
نسعى إلى تعزيز قيم التعايش بين أبناء الوطن الواحد، وننبذ كل ما من شأنه أن يُفرّق
الجمع، أو يشتّت الشمل، أو يزرع الضغينة، أو يؤصل للعداء.
حرر بتاريخ 25 - 09 - 2020
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا لك على قراءتك ، ويشرفني ان أقرأ تعليقك أيا كان وفقك الله سائلا الله لي ولك التوفيق والسداد.اخوك : خالد